فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والباء للملابسة.
وجملة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} تذييل، والواو اعتراضية، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح.
وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
والشح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس بمَنْع ما هو لها، وهو قريب من معنى البخل.
وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جدًا وقد أشار في (الكشاف) إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بَذْلُه وقد قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128] أي جعل الشح حاضرًا معها لا يفارقها، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة «أن تصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمُل الغِنى» ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه.
قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قائله:
يمارس نفسًا بين جَنْبَيْه كَزَّةً ** إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلًا

فمن وقي شح نفسه، أي وُقي من أن يكون الشح المذموم خُلقًا له، لأنه إذا وُقي هذا الخُلقَ سلِم من كل مواقع ذمه.
فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وُقيه.
واسم الإِشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك المُوقَى.
ومن المفسرين من جعل {والذين تبوؤا الدار} ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظًا في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} [الحشر: 7] على قرى خاصة هي: قريظة وفَدَك، وخيبر والنفع، وعُرينة، ووادي القُرى، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئَها قال للأنصار: «إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا»؟ فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت آيةُ {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية [الحشر: 7].
ومنهم من قصر هذه الآية على فَيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه.
وعلى هذا التفسير يكون عطف {والذين تبوؤا الدار} عطفَ جملة على جملة، واسم الموصول مبتدأ وجملة {يحبون من هاجر إليهم} خبرًا عن المبتدأ.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
عطف على {والذين تبوؤا الدار} [الحشر: 9] على التفسيرين المتقدمين؛ فأما على رأي من جعلوا {والذين تبوءوا الدار} [الحشر: 9] معطوفًا على {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] جعلوا {الذين جاؤوا من بعدهم} فريقًا من أهل القُرى، وهو غير المهاجرين والأنصار بلْ هو من جاء إلى الإِسلام بعد المهاجرين والأنصار، فضمير {من بعدهم} عائد إلى مجموع الفريقين.
والمجيء مستعمل للطروِّ والمصير إلى حالة تماثل حالهم، وهي حالة الإِسلام، فكأنهم أتوا إلى مكان لإِقامتهم، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذُكروا في قوله تعالى بعدَ ذكر المهاجرين والأنصار {والذين اتَّبعوهم بإحسان} [التوبة: 100] أي اتبعوهم في الإِيمان.
وإنما صيغ {جاءوا} بصيغة الماضي تغليبًا لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غِفارة، ومُزينة، وأسلم، ومثل عبد الله بن سَلاَم، وسلمان الفارسي، فكأنه قيل: الذين جاؤوا ويجيئون، بدلالة لحن الخطاب.
والمقصود من هذا: زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيْء بني النضير.
وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روى البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها (أي الفاتحين) كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وذكر القرطبي: أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ فلما غدَوا عليه قال: قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} [7، 8].
قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} إلى قوله: {رؤوف رحيم} ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإِسلام إلا وقد دخل في ذلك. اهـ.
وهذا ظاهر في الفيء، وأما ما فُتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سوادَ العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر، وهو ليس من غرضنا.
ومحله كتب الفقه والحديث.
والفريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] كلامًا مستأنفًا، وجعل {يحبون من هاجر إليهم} [الحشر: 9] خبرًا عن اسم الموصول، جعلوا قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} كذلك مستأنفًا.
ومن الذين جعلوا قوله: {والذين تبوءوا} [الحشر: 9] معطوفًا على {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] من جعل قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} مستأنفًا.
ونسبه ابن الفرس في (أحكام القرآن) إلى الشافعي.
ورأى أن الفيء إذا كان أرضًا فهو إلى تخيير الإِمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير.
وجملة {يقولون ربنا اغفر لنا} على التفسير المختار في موضع الحال من {الذين جاؤوا من بعدهم}.
والغلّ بكسر الغين: الحسد والبغض، أي سألوا الله أن يطَهر نفوسهم من الغلّ والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطُوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فُضّل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبيّن الله للذين جاؤا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم.
والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه.
وقد دلت الآية على أن حقًا على المسلمين أن يَذكروا سلفهم بخير، وأن حقًا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم، قال مالك: من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيْء المسلمين، ثم قرأ {والذين جاءوا من بعدهم} الآية.
فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى: {يقولون ربنا اغفر لنا} الآية، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم.
وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعليّ حين تحاكما إلى عمر، فقال العباس: اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر.
ومثل إقامة عمر حدّ القذف على أبي بَكرة.
وأما ما جرى بين عائشة وعليّ من النزاع والقتال وبين عليّ ومعاوية من القتال فإنما كان انتصارًا للحق في كلا رأيَي الجانبين وليس ذلك لغلّ أو تنقص، فهو كضرب القاضي أحدًا تأديبًا له فوجب إمساك غيرهم من التحَزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادِهم لتكافئ درجاتهم أو تقاربها.
والظنِّ بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير، وإنما هي مسحَة من حمية الجاهلية نَخرت عضد الأمة المحمدية. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
قد تقدم القول في تسبيح الجمادات التي يتناولها عموم ما في السماوات والأرض وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك. فقال قوم: ذلك على الحقيقة، وقال آخرون: ذلك مجاز أي آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له أن يسبح، قال مكي {سبح} معناه: صلى وسجد فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع، و{العزيز الحكيم} صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذي أخرجهم من ديارهم، و{الذين كفروا من أهل الكتاب} هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل وأموال عظيمة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر}. وقوله تعالى: {لأول الحشر} اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن {الحشر}: الجمع والتوجيه إلى ناحية ما. فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: أراد حشر القيامة أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر». وقال عكرمة والزهري وغيرهما: المعنى {لأول} موضع {الحشر} وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»، وقال قوم في كتاب المهدوي: المراد {الحشر} في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب»، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج: سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات، وفي هذه الإحاطة نظر. وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى: {من الله} يريد: من جند الله حزب الله وقوله تعالى: {فأتاهم الله} عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل.
وقرأ الجمهور: {الرعْب} بسكون العين، وقرأ أبو جعفر وشيبة، بضم العين، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}، فقال الضحاك والزجاج وغيره: كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأبًا فهذا معنى تخريبهم. وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافًا ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه، وقوله تعالى: {وأيدي المؤمنين} من حيث فعلهم، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين. وقال جماعة من المفسرين: إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي. قال قتادة: خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوهم من داخل. وقرأ جمهور القراء: {يخْرِبون} بسكون الخاء وتخفيف الراء. وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء. فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب، معناه: هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خرابًا وذهب عنه، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي العيون والأفهام.